فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال تعالى في حالة الموقف {وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها} و{جثيًا} حال مقدرة. وعن ابن عباس: قعودًا، وعنه جماعات جماعات جمع جثوة وهو المجموع من التراب والحجارة. وقال مجاهد والحسن والزجّاج: على الركب. وقال السدّي قيامًا على الركب لضيق المكان بهم.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص {جثيًا} و{عتيًا} و{صليًا} بكسر الجيم والعين والصاد والجمهور بضمها {ثم لننزعن} أي لنخرجن كقوله: {ونزع يده} وقيل: لنرمين من نزع القوس وهو الرمي بالسهم، والشيعة الجماعة المرتبطة بمذهب.
قال أبو الأحوص: يبدأ بالأكابر فالأكابر جرمًا. وقال الزمخشري: يمتاز من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب فقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم، والضمير في {أيهم} عائد على المحشورين المحضرين.
وقرأ الجمهور: {أيهم} بالرفع وهي حركة بناء على مذهب سيبويه، فأيهم مفعول بننزعن وهي موصولة: و{أشد} خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة لأيهم وحركة إعراب على مذهب الخليل ويونس على اختلاف في التخريج.
و{أيهم أشد} مبتدأ وخبر محكي على مذهب الخليل أي الذين يقال فيهم {أيهم أشد}.
وفي موضع نصب فيعلق عنه {لننزعن} على مذهب يونس، والترجيح بين هذه المذاهب مذكور في علم النحو.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون النزع واقعًا على من كل شيعة كقوله: {ووهبنا لهم من رحمتنا} أي {لننزعن} بعض {كل شيعة} فكأن قائلًا قال: من هم؟ فقيل إنهم أشد {عتيًا} انتهى.
فتكون {أيهم} موصولة خبر مبتدأ محذوف، وهذا تكلف وادعاء إضمار لا ضرورة تدعو إليه، وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين، وقرن الخليل تخريجه بقول الشاعر:
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل ** فأبيت لا حرج ولا محروم

أي فأبيت يقال فيّ لا حرج ولا محروم، ورجح الزجاج قول الخليل وذكر عنه النحاس أنه غلط سيبويه في هذه المسألة.
قال سيبويه: ويلزم على هذا أن يجوز اضرب السارق الخبيث الذي يقال له قيل، وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة وتسلط الفعل على المفرد أعظم منه على الجملة. ومذهب الكسائي أن معنى {لننزعن} لنناذين فعومل معاملته فلم تعمل في أي انتهى. ونقل هذا عن الفراء.
قال المهدوي: ونادى تعلق إذا كان بعده جملة نصب فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ. وقال المبرد: {أيهم} متعلق بشيعة، فلذلك ارتفع والمعنى من الذين تشايعوا {أيهم أشد} كأنهم يتبادرون إلى هذا، ويلزم أن يقدر مفعولًا {لننزعن} محذوفًا وقدر أيضًا في هذا المذهب من الذين تشايعوا {أيهم} أي من الذين تعاونوا فنظروا {أيهم أشد}. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي أن التشايع هو التعاون. وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول: في {أيهم} معنى الشرط، تقول: ضربت القوم أيهم غضب، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا فعلى هذا يكون التقدير إن اشتد عتوهم أو لم يشتد.
وقرأ طلحة بن مصرف ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء وزائدة عن الأعمش {أيهم} بالنصب مفعولًا بلننزعنّ، وهاتان القراءتان تدلان على أن مذهب سيبويه أنه لا يتحتم فيها البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها، وقد نقل عنه تحتم البناء وينبغي أن يكون فيه على مذهبه البناء والإعراب.
قال أبو عمرو الجرمي: خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحدًا يقول لأضربن أيهم قائم بالضم بل بنصبها انتهى. وقال أبو جعفر النحاس: وما علمت أحدًا من النحويين إلاّ وقد خطأ سيبويه، وسمعت أبا إسحاق يعني الزجاج يقول: ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلاّ في موضعين هذا أحدهما. قال: وقد أعرب سيبويه أيًا وهي مفردة لأنها تضاف فكيف يبنيها وهي مضافة؟. و{على الرحمن} متعلق بأشد. و{عتيًا} تمييز محول من المبتدإ تقديره {أيهم} هو عتوه {أشد على الرحمن} وفي الكلام حذف تقديره فيلقيه في أشد العذاب، أو فيبدأ بعذابه ثم بمن دونه إلى آخرهم عذابًا. وفي الحديث: «إنه تبدو عنق من النار فتقول: إني أمرت بكل جبار عنيد فتلتقطهم» وفي بعض الآثار: «يحضرون جميعًا حول جهنم مسلسلين مغلولين ثم يقدم الأكفر فالأكفر». قال ابن عباس: {عتيًا} جراءة. وقال مجاهد: فجرًا. وقيل: افتراء بلغة تميم. وقيل: {عتيًا} جمع عات فانتصابه على الحال. {ثم لنحن أعلم} أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئًا غير موضعه، لأنا قد أحطنا علمًا بكل واحد فأولى بصلى النار نعلمه. قال ابن جريج: أولى بالخلود. وقال الكلبي {صليًا} دخولًا. وقيل: لزومًا. وقيل: جمع صال فانتصب على الحال وبها متعلق بأولى. والواو في قوله: {وإن منكم} للعطف. وقال ابن عطية: {وإن منكم إلاّ واردها} قسم والواو تقتضيه، ويفسره قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلاّ تحلة القسم» انتهى.
وذهل عن قول النحويين أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلاّ إذا كان الجواب باللام أو بأن، والجواب هنا جاء على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا. وقوله والواو تقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم، ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار، ولا يجوز ذلك إلاّ إن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم: نعم السير على بئس العير، أي على عير بئس العير. وقول الشاعر:
والله ما زيد بنام صاحبه

أي برجل نام صاحبه.
وهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه.
وقرأ الجمهور: {منكم} بكاف الخطاب، والظاهر أنه عام للخلق وأنه ليس الورود الدخول لجميعهم، فعن ابن مسعود والحسن وقتادة هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها. وعن ابن عباس: قد يرد الشيء ولم يدخله كقوله: {ولما ورد ماء مدين} ووردت القافلة البلد ولم تدخله، ولكن قربت منه أو وصلت إليه. قال الشاعر:
فلما وردن الماء زرقًا جمامة ** وضعن عصى الحاضر المتخيم

وتقول العرب: وردنا ماء بني تميم وبني كلب إذا حضروهم ودخلوا بلادهم، وليس يراد به الماء بعينه. وقيل: الخطاب للكفار أي قل لهم يا محمد فيكون الورود في حقهم الدخول، وعلى قول من قال الخطاب عام وأن المؤمنين والكافرين يدخلون النار ولكن لا تضر المؤمنين، وذكروا كيفية دخول المؤمنين النار بما لا يعجبني نقله في كتابي هذا لشناعة قولهم إن المؤمنين يدخلون النار وإن لم تضرهم.
وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعة {وإن منهم} بالهاء للغيبة على ما تقدم من الضمائر.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالورود جثوهم حولها وإن أريد الكفار خاصة فالمعنى بيِّن، واسم {كان} مضمر يعود على الورود أي كان ورودهم حتمًا أي واجبًا قضي به.
وقرأ الجمهور: {ثم} بحرف العطف وهذا يدل على أن الورود عام.
وقرأ عبد الله وابن عباس وأبيّ وعليّ والجحدري وابن أبي ليلى ومعاوية بن قرة ويعقوب {ثَمَّ} بفتح الثاء أي هناك، ووقف ابن أبي ليلى {ثمه} بهاء السكت.
وقرأ الجمهور: {ننجي} بفتح النون وتشديد الجيم.
وقرأ يحيى والأعمش والكسائي وابن محيصن بإسكان النون وتخفيف الجيم.
وقرأت فرقة {نجي} بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة.
وقرأ علي: ننحي بحاء مهملة مضارع نحى، ومفعول {اتقوا} محذوف أي الشرك والظلم هنا ظلم الكفر. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}.
الإنسان: اسمُ جِنْس يرادُ به الكافرون، وروي أَنَّ سببَ نزُولِ هذه الآية هو: أَن رجالًا من قريشٍ كانُوا يقولون هذا ونحوه، وذكر: أَن القائِلَ هو أُبيُّ بْنُ خَلَفٍ.
ورُوِي أَن القائل هو العَاصِي بْنُ وَائِل، وفي قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} دَلِيلٌ على أَنَّ المعدومَ لا يسمى شَيْئًا.
وقال: أَبو علي الفارسي: أَراد شَيْئًا موجُودًا.
قال ع: وهذه من أبي علي نزعةٌ اعتزالية؛ فتأملها، والضمير في {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} عائدٌ على الكفَّارِ القائلين ما تقدم، ثم أَخبر تعالى: أَنه يقرن بهمِ الشياطِينَ المغوين لهم، و{جِثِيًّا} جمعُ جَاثٍ، فأخبر سبحانه: أَنه يحضر هؤلاءِ المُنْكِرينَ البعْثَ مع الشياطين المغوِينَ، فيجثُون حول جهنَّم؛ وهو قعودُ لخائفِ الذَّلِيل على رُكْبتيْهِ كالأَسِير، ونحوهِ.
قال ابنُ زيدٍ: الجَثْيُ: شَرُّ الجلُوسَ، و(الشيعة): الفِرْقَةُ المرتبطة بمذهبٍ وَاحدٍ، المتعاونةِ فيه، فأخبر سبحانه أَنه ينزع مِنْ كُلِّ شيعةٍ أَعْتاها وأَولاَها بالعذاب، فتكون مقدمتها إلى النَّار.
قال أَبو الأَحْوص: المعنى: نبدأُ بالأَكَابِر جرمًا، وأيّ وهنا بُنِيَتْ لمَّا حُذِف الضميرُ العَائِدُ عليها مِنْ صَدْر صِلَتها، وكان التقدِيْرُ: أَيَّهم هو أشَدُّ، و{صِلِيًّا}: مصدَرٌ صَليَ يَصْلَى إذَا باشَرَهُ.
وقوله عزَّ وجل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قَسَمٌ، والواو تَقْتَضِيه، ويفسّره قولهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَوْلاَدٍ، لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» وقرأ ابن عباس، وجماعَةٌ: {وإنْ مِنْهُمْ} بالهَاءِ على إرَادة الكُفَّار.
قال ع: ولا شغب في هذه القراءة، وقالت فِرْقَةٌ من الجمهور القارئين «منكم». المعنى: قُلْ لهم يا محمَّدُ، فالخِطَاب ب {مِنْكُمْ} للكفرةِ، وتأويل هؤلاءِ أَيضًا سَهْلُ التناوُلِ.
وقال الأكثرُ: المخاطَبُ العَالَمُ كلّه، ولابد مِنْ وُرُودِ الجميع، ثم اختلفوا في في كَيْفِيَّةِ ورود المُؤْمِنِينَ، فقال ابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، وخالدُ بن مَعْدَانَ، وابنُ جُرَيْجٍ، وغيرُهم: هو ورودُ دخولٍ، لكنَّها لا تعدو عليهم، ثم يُخْرِجَهم اللّهُ عز وجل منها بعدَ مَعْرِفتهم حَقِيقَةَ ما نَجَوْا منه.
وروى جابرُ بنُ عبدِ اللّهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الوُرُودُ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الدُّخُولُ»، وقد أَشْفَقَ كَثِيرٌ من العلماء من تحقُّقِ الورودِ مع الجَهْلِ بالصَّدَرِ جعلنا اللّه تعالى من الناجين بفضله ورحمته-، وقالت فِرْقَة: بَلْ هُو ورودُ إشْرَافٍ، واطِّلاعٍ، وقُرْبٍ، كما تقول: وردتُ الماءَ؛ إذا جِئْتَه، وليس يلزم أَن تدخل فيه، قالوا: وحَسْبُ المُؤْمِن بهذا هَوْلًا؛ ومنه قولُه تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: الآية23].
وروت فرقة أثرًا: أنّ الله تعالى يجعلُ النَّار يوم القيامة جامدةَ الأعلى كأنها إهالةٌ فيأتي الخلقُ كلُّهم؛ برُّهم وفاجرُهم فيقفون عليها ثم تسوخُ بأهلِها ويخرجُ المؤمنون الفائزون لم ينلهم ضرٌّ قالوا فهذا هو الورودُ.
قال المهدوي: وعن قتادةَ قال: يرد النَّاسُ جهنَّمَ وهي سَوْدَاءُ مظلِمةٌ، فأَما المؤْمنُونَ فأَضَاءَتْ لهم حَسَناتُهم، فَنَجَوْا منها، وأما الكفارُ فأوبقتهم سَيِّئَاتُهم، واحتبسوا بذنوبهم. انتهى.
وروت حَفْصَةُ- رضي اللّه عنها- أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَالحُدَيْبِيَةِ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّه، وأَيْنَ قَوْلُ اللّهِ تعالى: {وَإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا} فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: فَمَهْ، {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا}» ورجح الزجاجُ هذا القَوْلَ؛ بقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101].
ت: وحديثُ حفصةَ هذا أَخرجهُ مُسْلِم، وفيه: «أَفلم تَسْمَعِيهِ يقولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا}».
وروى ابنُ المبارك في (رُقائقه) أنه لما نزلت هذه الآية {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى: فَجَاءَتِ امرأته، فَبَكَتْ، وَجَاءَتْ الخَادِمُ فَبَكَتْ، وجَاءَ أَهْلُ البَيْبِ فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عَبْرَتُهُ، قَالَ: يَا أَهْلاَهُ، مَا يُبْكِيكُمْ، قَالُوا: لاَ نَدْرِي، وَلَكِنْ رَأَيْنَاكَ بَكَيْتَ فَبَكَيْنَا، فَقَالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ على رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم يُنْبِئُنِي فِيهَا رَبِّي أَنِي وَارِدُ النَّارَ، وَلَمْ يُنْبِئْنِي أَنِّي صَادِرٌ عَنْهَا، فَذَلِكَ الَّذِي أبْكَانِي. انتهى.
وَقال ابنُ مَسْعُودٍ: ورودُهُمْ: هو جَوَازُهُمْ على الصِّراطِ، وذلك أَنَّ الحديث الصَّحيحَ تضمن أَنَّ الصراط مَضْرُوبٌ على مَتْنِ جهنم.
والحَتْمُ: الأَمْر المنفدُ المجْزُوم، و{الذين اتقوا}: معناه اتَّقَوْا الكُفْر {ونَذَرُ} دالةٌ على أَنهم كَانُوا فيها.
قال أَبُو عُمَر بنُ عَبْدِ البَرِّ في (التمهيد) بعد أَن ذكر روَاية جابِر، وابنِ مَسْعُودٍ في الوُرُودِ، وروي عن كَعْبٍ أَنه تَلاَ؟ {وإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا} فقال: أَتَدْرُونَ مَا وُرُودُهَا؟ إنه يُجَاءُ بجهنَّم فتُمْسكُ للناس كأَنها متْن إهَالَة: يعني: الوَدَك الذي يجمد على القِدْر من المرقَةِ، حَتَّى إذا استقرت عليها أَقدَام الخَلائِق: بَرّهم وفَجارُهم، نَادَى مُنَادٍ: أَنْ خُذِي أَصْحَابِك، وذَرِي أَصْحَابِي، فيُخْسَفُ بكلِّ وليٍّ لها، فَلَهِيَ أَعلَمُ بهم مِنَ الوَالِدَة بولَدِهَا، وينجو المُؤْمِنُونَ نَدِيَّة ثيابهم.
وروي هذا المعنى عن أَبي نَضْرَةَ، وزاد: وهو معنى قولِه تعالى: {فاستبقوا الصراط فأنى يُبْصِرُونَ} [يس: 66]. انتهى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَيَقُولُ الإنسان}.
المرادُ به إما الجنسُ بأسره وإسنادُ القول إلى الكل لوجود القولِ فيما بينهم وإن لم يقله الجميع، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانًا وإنما القاتلُ واحدٌ منهم وإما البعضُ المعهودُ منهم وهم الكفرةُ أو أُبيُّ بنُ خلف فإنه أخذ عظامًا باليةً ففتّها وقال: يزعُم محمد أنا نبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذه الحال، أي يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} أي أُبعث من الأرض، أو من حال الموت، وتقديمُ الظرف وإيلاؤه حرفَ الإنكار لما أن المنكرَ كونُ ما بعد الموت وقت الحياة، وانتصابُه بفعل دل عليه أُخرجُ لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها وهي هاهنا مخلَصةٌ للتوكيد مجرّدةٌ عن معنى الحال، كما خلَصت الهمزةُ واللامُ للتعويض في يا ألله فساغ اقترانُها بحرف الاستقبال، وقرئ إذا ما مِتّ بهمزة واحدة مكسورة على الخبر.
{أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإنسان} من الذكر الذي يراد به التفكرُ، والإظهارُ في موقع الإضمار لزيادة التقريرِ والإشعارِ بأن الإنسانيةَ من دواعي التفكرِ فيما جرى عليه من شؤون التكوينِ المُنْحِية بالقلع عن القول المذكور، وهو السرُّ في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان، والهمزةُ للإنكار التوبيخيِّ والواوُ لعطف الجملة المنفيةِ على مقدّر يدلُّ عليه يقول، أي أيقول ذلك ولا يذكر {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} أي من قبلِ الحالة التي هو فيها وهي حالةُ بقائِه {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} أي والحالُ أنه لم يكن حينئذ شيئًا أصلًا، فحيث خلقناه وهو في تلك الحالةِ المنافيةِ للخلق بالكلية مع كونه أبعدَ من الوقوع فلأَنْ نَبعثَه بجمع الموادِّ المتفرِّقة وإيجادِ مثلِ ما كان فيها من الأعراض أَوْلى وأظهرُ، فما له لا يذكُره فيقعَ فيما يقع فيه من النكير وقرئ {يذّكّر} ويتذكر على الأصل.
{فَوَرَبّكَ} إقسامُه باسمه عزّت أسماؤه مضافًا إلى ضميره عليه السلام لتحقيق الأمرِ بالإشعار بعلّيته وتفخيمِ شأنِه عليه الصلاة والسلام ورفع منزلتِه {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} لنجمعَن القائلين بالسَّوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياءً، ففيه إثباتٌ للبعث بالطريق البرهانيّ على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كأنه أمرٌ واضحٌ غنيٌّ عن التصريح به، وإنما المحتاجُ إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال {والشياطين} معطوفٌ على الضمير المنصوبِ أو مفعول معه. روي أن الكفرةَ يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تُغْويهم، كلٌّ منهم مع شيطانه في سلسلة، وهذا وإن كان مختصًا بهم لكن ساغ نسبتُه إلى الجنس باعتبار أنهم لما حُشروا وفيهم الكفرةُ مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعًا كما ساغ نسبةُ القولِ إلى المحكيّ إليه مع كون القائل بعضَ أفراده {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} ليرى السعداءُ ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غِبطةً وسرورًا وينالَ الأشقياءُ ما ادخّروا لِمَعادهم عُدّةً ويزدادوا غيظًا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتِهم بهم، والجِثيُّ جمع جاثٍ من جثا إذا قعد على ركبتيه، وأصلُه جُثُوْوٌ بواوين فاستُثقل اجتماعُهما بعد ضمتين فكسرت الثاءُ للتخفيف فانقلبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياء الأولى وكُسرت الجيم إتباعًا لما بعدها وقرئ بضمها، ونصبُه على الحالية من الضمير البارز أي لنُحضرنهم حول جهنم جاثين على رُكَبهم لما يدهَمُهم من هول المطلَعِ أو لأنه من توابع التواقُفِ للحساب قبل التواصُل إلى الثواب والعقاب، فإن أهلَ الموقف جاثون كما ينطِق به قوله تعالى: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} على ما هو المعتادُ في مواقف التقاول، وإن كان المرادُ بالإنسان الكفرةَ فلعلهم يساقون من الموقف إلى شاطىء جهنم جُثاةً إهانةً بهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة.
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ} أي من كل أمةٍ شايعت دينًا من الأديان {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيًّا} أي مَنْ كان منهم أعصى وأعتى فنطرَحهم فيها، وفي ذكر الأشدّ تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعضٍ من أهل العصيان. وعلى تقدير تفسير الإنسانِ بالكفرة فالمعنى إنا نميز من كل طائفةٍ منهم أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم فنطرحهم في النار على الترتيب أو نُدخل كلًا منهم طبقتَها اللائقةَ به. وأيُّهم مبنيٌّ على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يُبنى كسائر الموصولاتِ لكنه أُعرب حملًا على كلٍ وبعض للزوم الإضافة، وإذا حُذف صدرُ صلتِه زاد نقصُه فعاد إلى حقه، وهو منصوبُ المحل بننزعنّ ولذلك قرىء منصوبًا، ومرفوعٌ عند غيره بالابتداء على أنه استفهاميٌّ وخبرُه أشدُّ والجملةُ محكيةٌ، والتقديرُ لننزعَنّ من كل شيعةٍ الذين يقال لهم أيُّهم أشدُّ، أو مُعلّقٌ عنها لننزعن لتضمّنه معنى التمييزِ اللازمِ للعلم، أو مستأنفةٌ والفعل واقعٌ على كل شيعة كقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا} و(على) للبيان فيتعلق بمحذوف كأنّ سائلًا قال: على مَنْ عتَوا؟ فقيل: على الرحمن، أو متعلقٌ بأفعل وكذا الباءُ في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيًّا} أي هم أولى بالنار وهم المنتزَعون، ويجوز أن يراد بهم وبأشدِّهم عِتيًّا رؤساءُ الشِيَع فإن عذابَهم مضاعفٌ لضلالهم وإضلالهم، والصِّليُّ كالعِتيّ صيغةً وإعلالًا وقرئ بضم الصاد.
{وَإِن مّنكُمْ} التفاتٌ لإظهار مزيدِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ، وقيل: هو خطابٌ للناس من غير التفاتٍ إلى المذكور، ويؤيد الأولَ أنه قرىء {وإن منهم} أي منكم أيها الإنسانُ {إِلاَّ وَارِدُهَا} أي واصلُها وحاضرٌ دونها يمرّ بها المؤمنون وهي خامدةٌ وتنهار بغيرهم. وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال: «إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ قال بعضُهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرِدَ النار؟ فيقال لهم: قد وردتُموها وهي خامدةٌ» وأما قولُه تعالى: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فالمرادُ الإبعادُ عن عذابها، وقيل: ورودُها الجوازُ على الصراط الممدودِ عليها {كَانَ} أي ورودُهم إياها {على رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} أي أمرًا محتومًا أوجبه الله عز وجل على ذاته وقضى أنه لابد من وقوعه ألبتةَ، وقيل: أقسم عليه {ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا} الكفرَ والمعاصيَ مما كانوا عليه من حال الجُثُوّ على الركب على الوجه الذي سلف فيُساقون إلى الجنة، وقرئ نُنْجي بالتخفيف ويُنْجي، وينجَى على البناء للمفعول، وقرئ ثَمةَ نُنجّي بفتح الثاء أي هناك ننجيهم {وَّنَذَرُ الظالمين} بالكفر والمعاصي {فِيهَا جِثِيًّا} منهارًا بهم كما كانوا، قيل: فيه دليلٌ على أن المراد بالورود الجثُوُّ حواليها وأن المؤمنين يفارقون الفجرةَ بعد تجاثيهم حولها ويُلقى الفجرةُ فيها على هيئاتهم. اهـ.